فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}.
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم، وقد ذكر في سورة الحديد ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب}.
والجواب: أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين:
أحدهما: أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح.
والثاني: أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم؛ كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم؛ لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. اهـ.

.تفسير الآيات [28- 32]:

قوله تعالى: {وَلوطا إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الْفَاحشَةَ مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ الْعَالَمينَ (28) أَئنكمْ لَتَأْتونَ الرجَالَ وَتَقْطَعونَ السبيلَ وَتَأْتونَ في نَاديكم الْمنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه إلا أَنْ قَالوا ائْتنَا بعَذَاب الله إنْ كنْتَ منَ الصادقينَ (29) قَالَ رَب انْصرْني عَلَى الْقَوْم الْمفْسدينَ (30) وَلَما جَاءَتْ رسلنَا إبْرَاهيمَ بالْبشْرَى قَالوا إنا مهْلكو أَهْل هَذه الْقَرْيَة إن أَهْلَهَا كَانوا ظَالمينَ (31) قَالَ إن فيهَا لوطا قَالوا نَحْن أَعْلَم بمَنْ فيهَا لَننَجيَنه وَأَهْلَه إلا امْرَأَتَه كَانَتْ منَ الْغَابرينَ (32)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان- كما مضى- السياق للابتلاء، خص بالبسط في القص من لم يكن له ناصر من قومه، أو كان غريبا منها، ولذلك أتبع الخليل عليه الصلاة والسلام ابن أخيه الذي أرسله الله إلى أهل سدوم: ناس لا قرابة له فيهم ولا عشيرة، فقال: {ولوطا} أي أرسلناه، وأشار إلى إسراعه في الامتثال بقوله: {إذ} أي وأرسلناه حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، حين فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، منكرا ما رأى من حالهم، وقبيح فعالهم، مؤكدا له إشارة إلى أنه- مع كونه يرونه من أعرف المعارف- جدير بأن ينكر: {إنكم لتأتون الفاحشة} أي المجاوزة للحد في القبح، فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها.
ثم علل كونها فاحشة استئنافا بقوله: {ما سبقكم} أو هي حال مبينة لعظيم جرأتهم على المنكر، أي غير مسبوقين {بها} وأعرق في النفي بقوله: {من أحد} وزاد بقوله: {من العالمين} أي كلهم فضلا عن خصوص الناس؛ ثم كرر الإنكار تأكيدا لتجاوز قبحها الذي ينكرونه فقال: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة، وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر، بيانا لاستحقاق الذم من وجوه، فأوجب حالهم ظن أنهم وصلوا من الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، فقال: {وتقطعون السبيل} أي بأذى الجلابين والمارة.
ولما خص هذين الفسادين، عم دالا على المجاهرة فقال: {وتأتون في ناديكم} أي المكان الذي تجلسون فيه للتحدث بحيث يسمع بعضكم نداء بعض من مجلس المؤانسة، وهو ناد ما دام القوم فيه، فإذا قاموا عنه لم يسم بذلك {المنكر} أي هذا الجنس، وهو ما تنكره الشرائع والمروءات والعقول، ولا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى، من غير أن يستحي بعضكم من بعض؛ ودل على عنادهم بقوله مسببا عن هذه النصائح بالنهي عن تلك الفضائح: {فما كان جواب قومه} أي الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم، ويتقي أذاهم وضرهم، لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عنادا وجهلا واستهزاء: {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجرأة.
ولما كان الإنكار ملزوما للوعيد بأمر ضار قالوا: {إن كنت} أي كونا متمكنا {من الصادقين} أي في وعيدك وإرسالك، إلهابا وتهييجا.
ولما كان كأنه قيل: بم أجابهم؟ قيل: {قال} أي لوط عليه الصلاة والسلام معرضا عنهم، مقبلا بكليته على المحسن إليه: {رب} أي أيها المحسن إلي {انصرني على القوم} أي الذين فيهم من القوة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين} بإتيان ما تعلم من القبائح.
ولما كان التقدير: فاستجبنا له فأرسلنا رسلنا بشرى لعمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام، تحقيقا لانتقامنا من المجرمين، وإنعامنا على الصالحين، ولابتلائنا لمن نريد من عبادنا حيث جعلنا النذارة مقارنة للبشارة، عطف عليه قوله: {ولما جاءت} وأسقط أن لأنه لم يتصل المقول بأول المجيء بل كان قبله السلام والإضافة؛ وعظم الرسل بقولهك {رسلنا} أي من الملائكة تعظيما لهم في أنفسهم ولما جاؤوا به {إبراهيم بالبشرى} أي بإسحاق ولدا له، ويعقوب ولدا لإسحاق عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان المقام للابتلاء والامتحان، أجمل البشرى، وفصل النذري، فقال: {قالوا} أي الرسل عليهم الصلاة والسلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم، جوابا لسؤاله عن خطبهم، تحقيقا لأن أهل السيئات مأخوذون، وأكدوا لعلمهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام يود أن يهديهم الله على يد ابن أخيه ولا يهلكهم، فقالوا: {إنا مهلكو} وأضافوا تحقيقا لأن الأمر قد حق وفرغ منه فقالوا: {أهل هذه القرية} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن أهلها} مظهرين غير مضمرين إفهاما لأن المراد أهلها الأضلاء في ذلك، إخراجا للوط عليه السلام: {كانوا ظالمين} أي عريقين في هذا الوصف، فلا حيلة في رجوعهم عنه.
ولما كان السامع بحيث يتشوف إلى معرفة ما كان بعد ذلك، كان كأنه قيل: لم يقنع الخليل عليه السلام لخطر المقام بهذا التلويح، بل {قال} مؤكدا تنبيها على جلالة ابن أخيه، وإعلاما بشدة اهتمامه به، وأنه ليس ممن يستحق الهلاك، ليعلم ما يقولون في حقه، لأن الحال جد، فهو جدير بالاختصار: {إن} وأفهم بقوله: {فيها لوطا} دون، منهم، أنه نزيل تدرجا إلى التصريح بالسؤال فيه، وسؤالا في الدفع عنهم بكونه فيهم، لأنه بعيد عما عللوا به الإهلاك من الظلم، {قالوا} أي الرسل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {نحن أعلم} أي منك {بمن فيها} أي من لوط وغيره.
ولما كان كلامهم محتملا للأنجاء والإرداء، صرحوا بقولهم على سبيل التأكيد، لأن إنجاءه من بينهم جدير بالاستبعاد: {لننجينه} أي إنجاءا عظيما {وأهله} ولما أفهم هذا امرأته استثنوها ليكون ذلك أنص على إنجاء غيرها من جميع أهله فقالوا: {إلا امرأته} فكأنه قيل: فما حالها؟ فقيل: {كانت} أي جبلة وطبعا {من الغابرين} أي الباقين في الأرض المدمرة والجماعة الفجرة، ليعم وجهها معهم الغبرة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلوطا إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الْفَاحشَةَ مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ الْعَالَمينَ (28)}.
الإعراب في لوط، والتفسير كما ذكرنا في قوله: {وإبراهيم إذْ قَالَ لقَوْمه} [العنكبوت: 16] وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قال إبراهيم لقومه {اعبدوا الله} وقال عن لوط هاهنا أنه قال لقومه {لَتَأْتونَ الفاحشة} فنقول لما ذكر الله لوطا عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لابد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها هاهنا ذكرها الله على سبيل الاختصار، فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال: {اعبدوا الله مَا لَكم منْ إله غَيْره} [الأعراف: 59] لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم.
وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصا بلوط، فإن إبراهيم لم يظهر ذلك {في زمنه} ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره.
المسألة الثانية:
لم سمى ذلك الفعل فاحشة؟ فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه، ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما الله في الإنسان، فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص، وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب، فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول، لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع، لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، لأن المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك، فلا يحصل مصلحة البقاء، فإذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت، فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة، وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة.
المسألة الثالثة:
الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة، لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبوا الزنى إنه كَانَ فَاحشَة} [الإسراء: 32] واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا هناك يشرع زاجرا ههنا، وهذا وإن كان قياسا إلا أن جامعه مستفاد من الآية، ووجه آخر، وهو أن الله جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلا، فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلا وهو الرجم، وقوله: {مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ} يحتمل وجهين أحدهما: أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر، والثاني: أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه، فقال لهم ما سبقكم بها من أحد، كما يقال إن فلانا سبق البخلاء في البخل، وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم، ثم قال تعالى: {أَئنكمْ لَتَأْتونَ الرجال وَتَقْطَعونَ السبيل} بيانا لما ذكرنا، يعني تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع، حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة، وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى: {أَتَأْتونَ الرجال شَهْوَة من دون النساء} [الأعراف: 81] يعني إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله: {وَتَأْتونَ في نَاديكم المنكر} يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار، وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه} في التفسير، كقوله في قصة إبراهيم {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال قوم إبراهيم {اقتلوه أَوْ حَرقوه} [العنكبوت: 24] وقال قوم لوط {ائتنا بعَذَاب الله} وما هددوه، مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط، فإن لوطا كان من قومه، فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله: لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين، فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم، فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب، فإن كنت صادقا فأتنا بالعذاب، فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه إلا أَن قَالوا أَخْرجوا ءالَ لوطٍ من قَرْيَتكمْ} [النمل: 56] وقال هاهنا {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه إلا أَن قَالوا ائتنا} فكيف الجمع؟ فنقول لوط كان ثابتا على الإرشاد مكررا عليهم التغيير والنهي والوعيد، فقالوا أولا ائتنا، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا، ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله {فَقَالَ رَب انصرنى عَلَى القوم المفسدين} فإن الله لا يحب المفسدين، حتى ينجز النصر.
واعلم أن نبيا من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: {إنكَ إن تَذَرْهمْ يضلوا عبَادَكَ وَلاَ يَلدوا إلا فَاجرا كَفارا} [نوح: 27] يعني المصلحة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا مصلحة فيهم، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله، بطلت المصلحة حالا ومآلا، فعدمهم صار خيرا، فطلب العذاب.
{وَلَما جَاءَتْ رسلنَا إبْرَاهيمَ بالْبشْرَى قَالوا إنا مهْلكو أَهْل هَذه الْقَرْيَة إن أَهْلَهَا كَانوا ظَالمينَ (31)}.
لما دعا لوط على قومه بقوله: {رَب انصرنى} استجاب الله دعاءه، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا: {إنَا مهْلكو أَهْل هذه القرية} يعني أهل سدوم، وفي الآية لطيفتان: إحداهما: أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين، لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار.
وقال: {جَاءتْ رسلنَا إبراهيم بالبشرى} ثم قال: {إنا مهلكو} الثانية: حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك عللوا، وقالوا: {إن أَهْلَهَا كَانوا ظالمين} لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه.
المسألة الثانية:
قال في قوم نوح {فَأَخَذَهم الطوفان} [العنكبوت: 14] وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وهاهنا قال: {إن أَهْلَهَا كَانوا ظالمين} ولم يقل وإنهم ظالمون، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال: {فَأَخَذَهمْ} وكانوا ظالمين، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وهاهنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا: {إنا مهلكوا} فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك، فقالوا: إنا مهلكوهم لأن الله أمرنا، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين، فحسن أمر الله عند كل أحد، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بيانا لحسن الأمر، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطا إشفاقا عليه ليعلم حاله، أو لأن الملائكة لما قالوا: {إنا مهلكوا} وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوما وفيهم رسوله، فقال تعجبا إن فيهم لوطا فكيف يهلكون، فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها، يعني نعلم أن فيهم لوطا فلننجينه وأهله ونهلك الباقين، وهاهنا لطيفة: وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير، أعني إبراهيم والملائكة، وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيرا.
أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة {إنا مهلكوا} أظهر الإشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحا، وقال: {قَالَ إن فيهَا لوطا} [العنكبوت: 32] ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه، وقالوا إنك ذكرت لوطا وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله، ثم استثنوا من الأهل امرأته، وقالوا: {إلا امرأته كَانَتْ منَ الغابرين} أي من المهلكين، وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان، وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي، وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق، وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم: {إنَا مهْلكو أَهْل هذه القرية إن أَهْلَهَا كَانوا ظالمين} ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة، فقالت الملائكة إنها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم، أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين، وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطا وأهله، وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك. اهـ.